mouchmabir1 منتدى الابداع و التميز
عدد الرسائل : 785 نقاط التميز : 500 عارضة الطاقة : نقاط : 820 السٌّمعَة : 4 تاريخ التسجيل : 24/09/2008
| موضوع: لجنة" في رسالة الغفران الجمعة 26 سبتمبر 2008, 05:01 | |
| " الجنة " في رسالة الغفران
لأبي العلاء المعري
"الجنة" لفظ قديم قدم الإنسانية لازم الإنسان منذ وعيه الديني و ما يزال يسجل حضورا كثيفا في الثقافات المعاصرة. و قد اختلفت أبعاده الدلالية بين المجتمعات و منذ أن عرف الإنسان الاعتقاد في البعث و في مفهومي الثواب و العقاب كانت الجنة الصورة المجسدة تجريديا لمفهوم الثواب و كانت باعثا للاطمئنان و متنفسا للشعور بالنقص و الاضطهاد و الظلم في العاجلة. فكان لا بد من مفهوم تجريدي يحدث هذا التوازن و يعد الإنسان نفسه من خلاله بالقصاص و الثواب و رغم ما يتطلبه هذا الإطار من إغراق في التجريد لما يحويه من قدسية و اختلاف كبير عن الأطر الدنيوية.فإننا نراه لا يختلف كثيرا عما تحويه مخيلة الإنسان من تصورات يستقيها مما يحيط به و هو كذلك في جميع الكتب المقدسة. و كذلك حاله في المعتقدات السائدة . و لعل جنة المعري و هي التي وردت لأبي العلاء المعري في مؤلفه رسالة الغفران تحمل بعض ملامح الجنة كما يتصورها الضمير الإسلامي دون أن تخلو من عناصر جديدة يضيفها تجريد المعري.فماهي إذن ملامح هذا الإطار و موقع ابن القارح فيه؟ و ماهو موقع المرأة داخله؟ و ماهي المقاييس التي يثاب من خلالها بالجنة؟
يبدأ المعري بوصف مضمن لإطار لم يكشف عنه في البداية و لكننا سندرك فيما بعد انه الجنة كما وردت في رسالته. إذن يدخلنا المعري رفقة ابن القارح إطارا من أهم خصائصه انه مكتظ و قد ييسر لنا التجريد العقلي تصور ما يترتب على هذا الوضع من ضجيج و عسر في الحركة. و قد يوهمنا هذا الإطار بأننا لا نزال في العاجلة و لكنه في الحقيقة حالة بعد البعث قد تكون يوم الحشر. فنرى بهذا منذ البداية أن المكان لم يضف إلى تصوراتنا شيئا جديدا لشبهه الشديد بأحوال الدنيا. و لكن المعري سرعان ما يخرجنا من هذا الإطار إلى إطار مختلف بالنسبة إلى الأول و غير مختلف بالنسبة إلينا لأنه لم يخرج عن إطار تصور المعري من خلال مؤلفه.و يكون هذا الإطار عكس الآخر تماما فهو يتميز بالسكون الشديد الذي يوحي به خلوه من أي "غريب".و رغم انه لا يتميز بالاكتظاظ فان ابن القارح استعسر العبور مما صعب عليه عبور "الطموش" .و لعل أبا العلاء يريد أن يشير من خلال هذه الصعوبات التي يضعها أمام ابن القارح إلى أعمال هذا الأخير في العاجلة التي لا تتيح له الدخول بيسر إلى جنة المعري.و لعله يسخر منه دون تصريح.فيكون هذا الإطار السابق للجنة على مستوى المرحلة الزمنية و المكانية محكا لأعمال الرجل (ابن القارح) في دنياه. و قد يكون المعري متعمدا تجريحه عندما أشار إلى تساقطه عن يمين و شمال فوق الصراط و عمق ذلك بمساعدة الجارية له إذ أن الجارية استطاعت العبور و هي تحمله "زقفونة" حين عجز هو عن ذلك رغم انه رجل و له من المكانة ما له.ثم يعيدنا المعري إلى المكان-الغاية: الجنة التي تمكن ابن القارح من الوصول إلى بابها فتبدو لنا ملامحها إذ هو إطار مغلق يقف حارس الجنان على بابه.و رغم ذلك فقد استطاع ابن القارح أن يرى شجرة الصفصاف التي "على باب الجنة من داخل". فننتهي إلى أن عناصر هذا الإطار لا تبدو غريبة عن خيالنا إذ هي الباب و السور و الشجر. و هي أشياء نراها تتواجد في حياة الناس.كما انه أضاف إلى هذا الإطار شيئا جديدا هو الإنسان.فبدا فيه "الطموش" و "ابن القارح" و "الجارية" و هذه الأخيرة تمثل رمزا للمرأة.فماهو موقع المرأة من خلالها في جنة المعري؟
نرى أن المرأة برزت منذ البداية داخل الجنة إذ أن الزهراء كانت رفقة جاريتها أو جواريها داخلها.غير أن تمكنهن من الوصول إلى هذا الإطار لم يكن بفضل العمل الفردي و إنما كان للقرابة التي تربط الزهراء بمحمد صلى الله عليه و سلم فكان دخولهن هذا الإطار لا يكشف عن موقع متميز أو ايجابي للمرأة و إنما ينم عن سلبية تامة إذ أن الجواري دخلن الجنة بواسطة الزهراء و الزهراء دخلت بواسطة الانتماء إلى آل الرسول .ثم يكشف المعري عن موقفه من المرأة إذ أنها رغم دخولها الجنة لا تزال مجرد وسيلة و متاع فيكشف "استعمال" الجارية لمساعدة ابن القارح عن مكانتها الحقيقية إذ لم يعتبرها سوى أداة لعبور الصراط.كما أن الحوار الذي دار بينه و بينها كشف عن جهل باللغة فقد استغربت منه تلك الألفاظ مثل "زقفونة" و "الجحجلول".وقد أورد المعري هذه المفردات كاشفا عن زاده اللغوي الثري كما انه نوع من أنواع "الاستعراض" يبرز من خلاله المعري تضلعه في اللغة العربية مستعملا الغريب من اللفظ "كالطموش" و الأفعال "كبعلت" و ينتهي في الختام إلى تبيان موقع المرأة بكل سفور من خلال الجارية التي ستهبها "الزهراء" لابن القارح "كي تخدمه في الجنان" .فرغم أن إطار الجنة فيه الراحة تفترض و تنعدم الأشغال مثلما ماهو حال الدنيا فان المرأة فيه لم تنل ما يدل على الثواب و إنما جعلت لتكون من الخدم. و هنا يتجلى موقف المعري سافرا كاشفا عن "عداوته" للمرأة.فتنتهي الجارية إلى مصيرها و هو خدمة ابن القارح في الجنة. و لكن قد نتساءل كيف وصل إلى الجنة هذا الرجل؟ أو ماهي مقاييس المعري التي يثيب اعتمادا عليها بالجنة؟
نرى منذ البداية و قبل الوصول إلى الجنة أن بعض السلوكات السائدة في الدنيا قد تكررت بعد البعث إذ انه بمجرد الانبعاث و في إطار يوم الحشر استعمل ابن القارح علاقاته و وساطاته كي يعبر الصراط إذ أن معرفته للزهراء أتاحت له العبور.فتنكشف العلاقات و المقاييس منذ البداية إذ أن الرجل رغم انه لقي نصبا عندما حاول مجاوزة الصراط إلا انه لم يسلك إلا عندما تدخلت علاقات الدنيا. فلم تخل إذن الأطر الجديدة من ملامح الزيف و المخادعة التي يفترض أن تنقرض و تحل محلها علاقات جديدة مناسبة لجدة الإطار و خصوصيته فنرى الوساطة تحل محل الاعتماد على الذات إذ تتجلى مثل هذه المظاهر في قول الزهراء لجاريتها "يا فلانة أجيزيه" ثم يرينا المعري تبرم ابن القارح من موقف رضوان المتسم بالغلظة .فيقارنه على لسان هذا الأخير بوضع شبيه في الدنيا إذ أن لخزانة الأمير "ابن المرجي" خازنا مثلما للجنة خازنا غير أن الخازن عند "أبي المرجي" لم يكن يتميز بالغلظة و إنما كان يعطي من مال الخزانة لابن القارح.فكان ابن القارح يطلب من "رضوان" أن يفعل مثلما كان يصنع خازن أبي المرجي.و هو يطلب بذلك نوعا من الغش و الحيلة لا تليق بإطار الجنة غير أن دخول ابن القارح المفاجئ للجنة قد كسر هذه "القاعدة" و تمت حركة الدخول الفجائية بوساطة "إبراهيم" "فرجع إلي فجذبني جذبة حطتني بها في الجنة" .فتنعدم مقاييس الثواب التي يفترض أن تكون المؤهل للأشخاص لدخول الجنة و ننتهي إلى شبه كبير بين جنة المعري و أحوال العاجلة التي لم تستطع مخيلة المعري خلقها خلقا جديدا مفارقا لدنياه.
لعل المعري تجاوز إلى حد معين واقعه ليصنع جنته غير انه لم يتخلص من قيود الأرض التي كبلته فكشف بذلك عن عجز الإنسان عموما عن تعويض الدنيا بإطار خيالي ليس في وسعه ملئ الفراغ أو تعويض النقص و لا حتى التمكن من شعور بالطمأنينة التي تنفس عنه مآسي الحياة.
| |
|